قصة المومياء ذات الأسنان التي يعود عمرها إلى 500 عام

مجلة أصحابي . عام 966 لاتعليقات

كشفت رحلة طويلة وشاقة جرت في الجزء الواقع في الهند من جبال الهيمالايا النقاب عن وجود ما يُعرف بـ “التحنيط الذاتي”، وهو تقليد غريب ومخيف وبالغ القدم أيضا.

في البدء، قال لنا مرشدنا السياحي سوراج: “لن أخبركم بما يوجد هناك، يتعين عليكم رؤيته بأم أعينكم لتصدقوا” أنه موجود.

وبابتسامة عريضة من بين شفتيه الملطختين بأثار مضغ نبات التنبول، مضى سوراج قائلا: “مع ذلك، ستُصدَمون دون أدنى شك”، تاركاً إيانا مفتونين بكم العجائب التي ربما تكون لا تزال مخفية في ثنايا هذه الصحراء الواقعة على ارتفاع شاهق.

كنت آنذاك ضمن رحلة ضمت عددا من الأصدقاء وزرنا خلالها ولاية هيماشال براديش الواقعة شمالي الهند، تحديدا منطقة تُدعى سبيتي، وهي بقعة نائية في منطقة جبال الهيمالايا متاخمة للحدود مع التبت، حيث تتسم التغيرات هناك بأنها تحدث بوتيرة بطيئة.

كنا بالفعل مفعمين بمشاعر الرهبة والإعجاب من جراء رؤية دير بوذي قديم ينتصب على سفوح الجبال الجرداء في منطقة كاي؛ كما لو كان قلعة ذات جمال سماوي خلاب، وقد احتسينا الشاي في قرية “كيبر”؛ إحدى أكثر القرى المأهولة بالسكان في العالم ارتفاعا عن سطح البحر، كما مضينا بسياراتنا على طول نهر سبيتي متلاطم الأمواج، فوق طرق طينية شديدة الوعورة والخطورة على نحو يصعب تصوره.

وخلال تنقلاتنا أطللنا- لأكثر من مرة – على ذاك المشهد الساحر للشمس وهي تغرب فوق القمم المدببة لجبال الهيمالايا، وكذلك على تلك التضاريس ذات الطابع السريالي التي تكوّنت بفعل الرياح، وجعلت سطح الأرض هناك يشبه نظيره على سطح القمر.

غير أنه كان في جعبة منطقة سبيتي الساحرة؛ وهي واحدة من أقل المناطق ازدحاما بالسكان في الهند وإحدى أكثر بقاع البلاد تأثرا بما يُعرف بـ”البوذية التبتية”، أسرارٌ تفوق ما كان بوسعنا سبر غوره.

ففي صباح مطير بارد، شققنا طريقنا – ونحن في منطقة الهيمالايا شاهقة الارتفاع – صوب قرية “غو” الصغيرة الواقعة على بعد تسعة كيلومترات فحسب من الحدود مع التبت، وذلك لرؤية المفاجأة التي حدثنا عنها سوراج.

أطراف وادي سبيتي التي تتميز بمظاهرها الطبيعية الساحرة

طفقنا نمضي إلى أعلى بثبات على طريق مُعبدة حديثا تصل ما بين منطقة متربة يسود سطحها اللون البني الفاتح وبقعة تحفل بالكتل الصخرية، حتى وصلنا إلى قرية صغيرة تتألف من بضعة بيوت طينية، إلى جانب مبنى خرساني صغير المساحة على شكل صندوق؛ عبارة عن غرفة واحدة.

بداخل هذا المبنى، ألفينا أنفسنا ونحن نحدق في مومياء تعود إلى 500 عام، لا تزال أسنان صاحبها الميت ظاهرة من خلال شفتيه المنفرجتين، دون أن يحميها سوى لوح زجاجي رقيق.

حتى تلك اللحظة؛ كنت افترض أنه لكي يُحنْط جسد ما، فلابد وأن يخضع لعملية التحنيط التقليدية ثم يُوضع في لفائف قبل أن يُعرض في المتحف وفوقه غطاء زجاجي مؤلف من العديد من الطبقات.

لكن ها أنا أحدق مباشرة في الجلد الداكن والمشدود للمومياء، ورأسها الذي لم يمسه أذى ظاهر، وفوقه شعر مصفف على شاكلة حُفظت على نحو جيد عبر القرون. وكانت المومياء جالسة بثبات، بكفّ يلتف حول إحدى الساقين، بينما يستند الذقن على واحدة من الركبتين.

وتمثل هذه المومياء رفات راهب بوذي يُدعى سانغا تنزين كان يعيش في القرن الخامس عشر. وقد عُثر على هذه الرفات في عام 1975، حينما أدى زلزال إلى انهيار المبنى الذي كانت موجودة بين جدرانه، وهو مبنى كان مشيدا على طراز معماري يحمل اسم “ستوبا”، وهو طراز يتخذ شكل مزار بوذي ذي قبة.

ومنذ ذلك الحين، لم تبد المومياء سوى علامات محدودة على التحلل، رغم كونها معرضة لعوامل التعرية، دون وجود أي عناصر خارجية استعان بها البشر للحفاظ على حالتها.

خارج المبنى؛ بدا الجو معتما ومفعما بأجواء مشؤومة. وقد عكست الأصوات المخيفة لهبوب الرياح والغيوم مزاجي المضطرب. ففي غمار شعوري بالحيرة والارتباك؛ أغلقت باب الغرفة الخرسانية الضيقة حتى تتلاشى الانعكاسات التي كان يموج بها الزجاج المحيط بالمومياء، لأجد نفسي وحيدا مع ذلك الراهب البوذي.

في تلك اللحظة، كنت فاغر الفم من فرط الدهشة، مغمورا بمشاعر الإعجاب والخوف في آن واحد، وأنا اتفحص الجسد النحيل ناتئ العظام لذلك الراهب، وأحدق في تجويفيّ عينيه الخاوييّن.

بدا ليّ “الراهب المومياء” إنسانا عاديا على نحو غريب، إلى حد أنني لم أكن لأفاجئ إذا ما نهض وتحرك صوبي. فرغم أن سانغا تنزين فارق الحياة منذ أكثر من 500 عام، فإن جسده بدا كما لو كان لا يزال نابضا بالحياة.

دير كاي.. أحد الأديرة العديدة الموجودة في “سبيتي” لما يُعرف بـ”البوذية التبتية”

ولدى العودة إلى المنزل، وفي مسعى لفهم طبيعة هذا اللقاء غريب الأطوار، عثرت على فيلم وثائقي بعنوان “لغز مومياء التبت”، يتناول دراسة أجراها البروفيسور فيكتور إتش مائير من متحف الآثار وعلم الإنسان التابع لجامعة بنسلفانيا الأمريكية.

وفي هذا الفيلم، يلفت مائير الانتباه إلى أوجه الشبه بين الراهب سانغا تنزين والرهبان البوذيين في منطقة ياماغاتا الواقعة شمالي اليابان، جامعاً مؤشرات وأدلة بشأن عملية التحنيط الذاتي، التي كان يقدم عليها بعض هؤلاء الرهبان، وهي مؤشرات مستمدة من الحالة الوحيدة المعروفة والموثقة لتلك العملية التي تُعرف في البوذية باسم “سوكوشينبوتسو”.

ويشير هذا الاسم إلى طقس كان مُتبعاً في الفترة ما بين القرنين الحادي عشر والتاسع عشر، من قِبَلِ من هم أكثر تفانيا وإخلاصاً ومقدرة بدنية بين أبرز القادة الروحيين للبوذيين في منطقة ياماغاتا، أولئك ممن كانوا يُقْدمون على تجويع أنفسهم حتى الموت على نحو تدريجي وبوتيرة بطيئة للغاية، وذلك للسمو بأنفسهم بغرض الوصول إلى أعلى ذرى التبصر والتنور.

وكان النظام الغذائي لرهبان ياماغاتا يعتمد على الأغذية ذات الأصل النباتي فحسب، إذ لم يكونوا يتناولون سوى الجذور والمكسرات والبذور والأعشاب، بهدف التخلص تماما من كل ما تختزنه أجسادهم من دهون.

وتتراوح المدة التي تستغرقها هذه العملية من عدة شهور إلى 10 سنوات. وخلال تلك الفترة، يُعتقد أن أولئك الرهبان كانوا يتناولون بذورا استوائية سامة، وكذلك عصارة أشجار الـ”توكسي كودندرون فرنيسي فلم” السامة، التي تُعرف باسم أشجار الورنيش اليابانية. ويساعد تناول هذه المواد على تسهيل عملية القيء، مما يزيل أي أثر للماء والرطوبة من الجسم، كما يردع الحشرات التي تتغذى على أجساد البشر بعد موتهم.

وبحلول وقت وفاة هذا الراهب أو ذاك؛ يكون جسده قد صار خاليا تماما من الدهون، كما تنكمش أجهزته الداخلية بشكل كبير للغاية، مما يحول دون أن يبدأ جسده – المتيبس من قلة المياه أو انعدامها – في التحلل. ويؤدي ذلك إلى الحفاظ على الهيئة الجسدية للمتوفى، وإلى إطلاق شرارة بدء تلك العملية المحيرة المتعلقة بالتحنيط الطبيعي.

ومن المفترض أن يكون الراهب تنزين قد اتبع ذات الخطوات التي كان يتبعها الرهبان البوذيون اليابانيون، وهو ما تبرهن على صحته تلك المستويات العالية للنيتروجين، التي وجدها فريق الباحثين بقيادة مائير متبقية في جسده المحنط، في مؤشر على صيامه لفترة طويلة.

كما أن التأمل ربما يكون قد لعب دورا مهما بدوره، إذ أن بوسع المرء رؤية ما يُعرف بـ”غومتاغ”، وهو حزام كان يُستخدم خلال فترات التأمل الطويلة، وقد التف حول عنق تنزين وساقيه لمساعدته على الإبقاء على وضعية جسده ثابتة إلى أن يفارق الحياة.

وقد غمرتني مشاعر الإعجاب والرهبة معا إزاء ذاك القدر من المعرفة والتصميم اللازميّن لتخيل وتصور طقس غريب على هذه الشاكلة، وكذلك وضعه موضع التنفيذ.

وبعد شهور من تلك الرحلة، سمعت بوجود اثنين من المومياوات تعودان لراهبيّن بوذييّن آخريّن في دير ثيكسي بمنطقة لاداخ الهندية. وقد أخضع الراهبان نفسيهما لتجربة التحنيط الذاتي تلك، والتي يطلق العامة على من يخوضها من الرهبان اسم “بوذا الحي”.

وفي الآونة الأخيرة؛ تحديدا في فبراير/شباط الماضي، عُثر في منغوليا – وهي معقل آخر لـ”البوذية التبتية”- على راهب مُحنّط ذاتيا منذ نحو 200 عام، وقد وُجدت مومياؤه في حالة جيدة.

وحتى الآن، لم يجد العلماء أي “بوذا حي” في منطقة التبت. رغم أنه من المرجح أن تكون الثورة الثقافية التي شهدتها الصين (بين عامي 1966 و1976) وما تلاها من عمليات تدمير للمعالم الثقافية، قد قادت على الأرجح إلى إتلاف أي مومياوات حُنطت بشكل طبيعي وكانت تحظى بالقداسة، وأي أدبيات ذات طابع ديني، وكذلك إلى تخريب عدة آلاف من الأديرة.

لكن لحسن الحظ، وجدت رفات سانغا تنزين ذات الطابع غير المألوف ملاذا آمنا لها في سبيتي؛ تلك البقعة النائية الباردة والمعزولة في الجانب الهندي من جبال الهيمالايا.

أترك تعليق


جرب نسيج الآن ...

مجلة أصحابي

مجلة أصحابي هي مجلة منوعة تهدف الى جمع أكبر عدد ممكن من المقالات والمواضيع المتميزة التي تهم الشباب والشابات. يمكنكم ارسال مشاركاتكم واضافاتكم الى موقعنا في أي مجال يهمكم.